بشارات يكتب عن الإجراءات الأوروبية المتصاعدة ضد إسرائيل لوقف الحرب على غزة
صنارة نيوز - 19/08/2025 - 3:54 pm
د. راسم بشارات
المقدمة
مع اقتراب الحرب الإسرائيلية على غزة من عامها الثالث، وما رافقهامن تدمير وقتل وتجويع يرتقي إلى جرائم حرب وابادة جماعية، وامتداد العنف الممنهج إلى الضفة الغربية عبر القتل اليوميللمدنيين، وتغوّل المستوطنين، وتصاعد مخططات الضم الإسرائيلي، لم يعد بالإمكان تجاهل ما يحدث من تحولات متسارعة في مواقفعدد من الدول الأوروبية تجاه السياسات الإسرائيلية.
المواقف الاوروبية تجاه السياسات الاسرائيلية تنوعت، من قراراتحظر تصدير الأسلحة، إلى مراجعة الاستثمارات في الشركاتالمرتبطة بالاحتلال، مرورًا بالاعتراف بدولة فلسطين. لذا بدا واضحًاأن أوروبا أمام مفترق حاسم في علاقتها مع إسرائيل، خصوصًامع تصاعد الانتهاكات التي تتعارض جوهريًا مع القانون الدولي، ومع الإجماع الأوروبي التقليدي على حل الدولتين.
وفي ظل هذه التحولات، يمكن طرح أسئلة جوهرية تسعى هذه المقالةالوصول إلى إجابات عليها:
هل ما نشهده من مواقف أوروبية هو انعطافة أخلاقية حقيقية تُنهيعقودًا من التواطؤ السياسي والدبلوماسي؟ أم أن ما يحدث ليسأكثر من محاولة لتهدئة غضب الشارع الأوروبي المتصاعد؟
وفي حال توقفت الحرب على غزة وأوقفت الحكومة الاسرائيليةسياسات الضم في الضفة الغربية ووضعت حد لاعتداءاتالمستوطنين على المدنيين الفلسطينيين وتغولهم في أراضي المواطنينالفلسطينيين، هل تستمر أوروبا في سياساتها ضد الاحتلالالإسرائيلي، تستجمع جهودها الفعلية للوصول إلى دولة فلسطينيةعلى حدود الرابع من حزيران ١٩٦٧ أم تخبو وتعود إلى دبلوماسيةهادئة في تبني حل الدولتين والكيل بمكيالين!.
أوروبا: تحولات غير مسبوقة
سلوفينيا: حظر رسمي للسلاح
في خطوة غير مسبوقة أوروبياً، أعلنت الحكومة السلوفينية فرضحظر شامل على استيراد وتصدير ونقل الأسلحة من وإلى إسرائيل، لتكون أول دولة في الاتحاد الأوروبي تتخذ هذا الموقف الصريح.
وأكدت الحكومة أنها ستتصرف بشكل مستقل إذا لم يتحرك الاتحادالأوروبي جماعياً، معلنة عزمها اتخاذ خطوات إضافية ضد حكومةالاحتلال خلال الأسابيع المقبلة.
إسبانيا: مواقف سياسية متقدمة
في مقال نشرته صحيفة الباييس الإسبانية بتاريخ 28 يوليو 2025، تحت عنوان “Cerrar la herida de Palestina” (إغلاق جرحفلسطين)، طرح وزير الخارجية الإسباني خوسيه مانويل ألباريسرؤية شاملة تضمنت:
● الاعتراف الرسمي بدولة فلسطين
● وقف صادرات السلاح إلى إسرائيل
● اتخاذ إجراءات قانونية ضد المستوطنين
● تعليق الاتفاقيات الثنائية مع دولة إسرائيل.
وأكد ألباريس التزام الحكومة الإسبانية بدفع أوروبا نحو حلالدولتين ووقف الحرب فورًا، واعتبر الوضع الراهن عارًا على القيمالأوروبية والضمير الإنساني.
أيرلندا: الدعوة الى تحرك قانوني دولي
عبّر الرئيس الإيرلندي مايكل هيغينز عن موقف إنساني وسياسيلافت، إذ وصف ما يجري في غزة بأنه تجويع وإبادة جماعية.
وطالب الأمم المتحدة بتفعيل الفصل السابع من ميثاقها، والذي يتيحاتخاذ إجراءات قسرية – سياسية أو عسكرية – لحماية السلموالأمن الدوليين، داعيًا إلى وقف “الفرجة على الجوع والدمار”.
النرويج: مراجعة الاستثمارات في شركات إسرائيلية
أعلن وزير المالية النرويجي عن بدء مراجعة استثمارات صندوقالتقاعد النرويجي في الشركات المرتبطة بإسرائيل، في ضوء الحربوالاحتلال غير الشرعي للضفة الغربية، مؤكدًا أن بلاده تسعىلتجنب الاستثمار في أي كيان يسهم في استمرار الانتهاكات ضدالفلسطينيين.
تصاعد حدة الاعترافات بدولة فلسطين:
تعتزم دول أوروبية مثل فرنسا، مالطا، والبرتغال الاعتراف بدولةفلسطين في إطار جهد دبلوماسي موحد، قد يعيد القضيةالفلسطينية إلى قلب الشرعية الدولية، ويفرض وقائع قانونية جديدةعلى العلاقات مع إسرائيل، خصوصًا فيما يتعلق بشرعية الاحتلالوالاستيطان.
أسباب التحول الأوروبي:
التحول الجاري في أوروبا هو نتاج تفاعل بين عدة مكونات وعدةأسباب، يمكن القول أنه تحول داخلي أوروبي بطيء لكنه جوهري، يعكس أزمة أخلاقية في علاقة أوروبا بإسرائيل، والمكونات هي:
● الرأي العام الأوروبي، الذي بدأ يرى بأمّ عينه ازدواجيةالمعايير، عمليات الابادة للمدنيين وسياسات التجويع فيغزة.
● المجتمع المدني الأوروبي، خصوصًا الحركات الطلابيةوالنقابات والمنظمات الحقوقية.
● صعود قوى سياسية أوروبية جديدة غير ملتزمة تاريخيًابالتطبيع مع إسرائيل، أهمها أحزاب الخضر، أحزابيسارية راديكالية، وأحزاب يسارية واشتراكية تقليدية مثلحزب Sumar في إسبانيا وحزب Levica في سلوفينياوحزب La France Insoumise في فرنسا.
● فضائح الاستيطان الاسرائيلي في الأراضي الفلسطينيةالمحتلة والفصل العنصري الإسرائيلي التي لم تعد قابلةللتستر عليها دوليًا.
أوروبا بين القيم والمصالح:
المسار الحالي الأوروبي يطرح سؤالًا استراتيجيًا: هل هذهالتحركات الأوروبية ظرفية نتيجة ضغط الحرب؟ أم مقدمة لتحولدائم في السياسة الأوروبية تجاه فلسطين؟ والجواب على هذاالسؤال مرهون بعدة عوامل:
قدرة الفلسطينيين على توحيد الصفوف وبلورة مشروع سياسيمتكامل.
استمرار الضغط الشعبي الأوروبي الداخلي على الحكومات.
طبيعة ردّ إسرائيل على هذه التحركات، وهل تفتح مواجهة دبلوماسيةمع أوروبا.
مواقف الدول الكبرى في الاتحاد مثل ألمانيا وإيطاليا وفرنسا، التيلا تزال مترددة.
كما أن القراءة السياسية للمواقف والتحركات الأوروبية الجديدة تنبعمن مزيج معقّد من الدوافع، والدوافع هي:
الدافع الإنساني: لم يعد بإمكان القادة الأوروبيين تبرير الجرائمالإسرائيلية أمام شعوبهم، خصوصًا مع تزايد مشاهد القصفوالموت والجوع في غزة والاعتداءات الممنهجة من مليشياتالمستوطنين المدعومة من الجيش والحكومة الاسرائيلية على البلداتوالتجمعات المدنية الفلسطينية في الضفة الغربية.
الدافع السياسي: تواجه حكومات أوروبية عديدة ضغوطًا شعبيةوانتخابية لوقف الحرب. فقد خرجت مظاهرات ضخمة في مدريد، لندن، باريس، برلين، بروكسل، وأوسلو، تطالب بوقف الدعم لإسرائيلوتنادي بالحرية لفلسطين.
الدافع القانوني: هناك خشية متزايدة من فقدان ثقة المجتمعالدولي بالقانون الدولي، خصوصًا إذا أفلتت إسرائيل من المساءلةرغم جرائمها الواضحة التي تنتهك القانون الإنساني الدولي وميثاقجنيف والأمم المتحدة.
الدافع الدبلوماسي: تحاول أوروبا الحفاظ على توازن دقيق بينعلاقتها مع واشنطن، ودورها العالمي كمدافع عن قيم حقوقالإنسان.
لذا يمكن القول أن أوروبا تقف اليوم أمام مفترق طرق حاسم، فإماأن تتحرر من إرث التواطؤ والصمت، وتترجم شعاراتها عن حقوقالإنسان والعدالة إلى مواقف ملموسة، وإما أن تكتفي بامتصاصغضب الشارع، لتعيد إنتاج صيغ قديمة من النفاق السياسي.
مدى استمرار أوروبا في دعم إقامة الدولة الفلسطينية
على الرغم من أن بعض الخطوات الأوروبية، مثل الاعتراف بدولةفلسطين، تحمل بعدا استراتيجيا، إلا أن استمراريتها قد تكون غيرمضمونة، فبعض الدول، مثل ألمانيا والنمسا والتشيك، لا تزالتعارض التحركات الأحادية دون موافقة إسرائيلية، مما يعكسانقسامات داخل الاتحاد الأوروبي.
يضاف إلى ذلك ان الاتحاد الأوروبي ككتلة لا يمتلك حتى الآن إرادةموحدة لفرض عقوبات على إسرائيل أو تجميد اتفاقيات التعاونوالشراكة. فيما لا تزال الولايات المتحدة هي الطرف الأكثر تأثيرًا، وأوروبا لم تُظهر حتى الآن استعدادًا لتحدي الموقف الأميركيبشكل مباشر.
ما يجري اليوم في أوروبا فرصة تاريخية، لكنها ليست ضمانةلتغيير استراتيجي دائم. ففي حال توقفت الحرب على غزة، منالمرجح أن يتراجع الزخم تدريجيًا، ما لم تتحرك القيادة الفلسطينيةوالعربية بشكل منسق لتحويله إلى مكسب دائم.
إذا أرادت القيادة الفلسطينية البناء على هذا الزخم، فعليها ما يلي:
● تفعيل الدبلوماسية الفلسطينية بطرق جديدة تتجاوزالخطاب التقليدي.
● الانخراط المباشر مع الأحزاب والبرلمانات الأوروبية المؤثرة، لا الاكتفاء بالمواقف الرمزية.
● الاستثمار في المجتمع المدني الأوروبي الداعم لفلسطين، باعتباره رافعة ضاغطة مستدامة
لهذا في اعتقادي انه في حال توقفت الحرب، فمن المرجح أن يخبوالزخم الأوروبي تدريجيًا ما لم يتم تحويله إلى أجندة سياسيةدائمة عبر تنسيق فلسطيني – عربي نشط. وإذا لم تُبذل جهودفلسطينية وعربية نشطة، فإن الزخم الأوروبي قد يتراجع مع وقفالحرب، ويعود خطاب حل الدولتين إلى مجرد تعبيرات ديبلوماسيةتستخدم في اروقة البرلمان الأوروبي ولقاءات الزعماء والقادة.
النتائج المحتملة لهذا التحرك:
اولا: تصاعد عزلة إسرائيل السياسية في المحافل الدولية مع تواليإجراءات أوروبية صارمة.
ثانيا: تقليص الدعم العسكري والتكنولوجي الأوروبي لآلة الحربالإسرائيلية تدريجيًا.
ثالثا: فتح مسارات قانونية جديدة لمحاسبة القادة الإسرائيليين علىجرائم الحرب في غزة.
رابعا: استعادة مركزية القضية الفلسطينية بعد سنوات منالتهميش، خصوصًا في الرأي العام الأوروبي
التوصيات لتحويل الزخم إلى إنجاز سياسي
في ضوء التحولات الأوروبية المتزايدة تجاه القضية الفلسطينية، وتنامي الوعي الشعبي والبرلماني بمخاطر استمرار الاحتلالالإسرائيلي وجرائمه في غزة والضفة الغربية، تتطلب اللحظة الراهنةرؤية استراتيجية مزدوجة، تشمل مسارات للعمل على المستويينالفلسطيني/العربي والأوروبي، على النحو الآتي:
أولًا: على المستوى الفلسطيني والعربي
بناء خطاب دبلوماسي موحّد وفعال: تجاوز الانقسام الداخلي عبرخطاب سياسي يرتكز على لغة المصالح والقانون الدولي، ويخاطبالعقل الأوروبي بلغة استراتيجية لا عاطفية فقط.
إطلاق حملة دبلوماسية منسقة مع الدول العربية الداعمة: من اجلاستثمار الزخم الأوروبي الحالي في دفع مزيد من الاعترافات بدولةفلسطين، ودعم سياسات عملية كوقف تصدير السلاح وتعليقالاتفاقيات مع إسرائيل.
توظيف الاعترافات الأوروبية قانونيًا ودبلوماسيًا: من خلال تحركفلسطيني – دولي لتوثيق الانتهاكات، وتفعيل الآليات القضائية أمامالمحاكم الدولية، استنادًا إلى توصيف الاحتلال كنظام فصلعنصري و الاستيطان كجريمة حرب.
الاستثمار في المجتمع المدني الأوروبي: وبشكل خاص في صفوفالأكاديميين، والنقابات، والحركات الشبابية، لتعزيز التأييد الشعبيوجعله رافعة مستدامة للضغط على الحكومات الأوروبية.
الانفتاح على الأحزاب الحاكمة والمواقف الجديدة: وبناء تحالفاتاستراتيجية مع الأحزاب التي غيّرت مواقفها، خاصة في إسبانيا، أيرلندا، سلوفينيا، وبلجيكا، وتحويلها إلى داعمين دائمين للاعترافبالدولة الفلسطينية.
ثانيًا: على المستوى الأوروبي والدولي
ربط علاقات الاتحاد الأوروبي مع إسرائيل بشروط واضحة: مثلاحترام القانون الدولي، ووقف الاستيطان، والتقيد بحقوق الإنسان، ما يفرض على إسرائيل ثمنًا سياسيًا واقتصاديًا لاستمرارسياساتها الاستعمارية.
دعم إنشاء جبهة برلمانية أوروبية مناصرة لفلسطين: تضم نوابًا منالكتل التقدمية، واليسار، والخضر، تكون بمثابة صوت ضاغط داخلالبرلمانات الوطنية والبرلمان الأوروبي لدعم الإعتراف بالدولةالفلسطينية.
تعزيز الدور القانوني الأوروبي في المحاسبة الدولية: عبر تبنيالحكومات الأوروبية لمبادرات دعم القضية الفلسطينية أمام المحكمةالجنائية الدولية ومحكمة العدل الدولية، بما يرسخ الالتزام الأوروبيبحماية حقوق الشعب الفلسطيني.
تحصين الاعترافات بدولة فلسطين ضمن أطر قانونية ملزمة: ومنعالتراجع عنها أو استخدامها كأدوات رمزية، عبر الدفع باتجاهاعترافات رسمية في الأمم المتحدة، وتعديل المواقف القانونيةالأوروبية تجاه الاحتلال والاستيطان.
الخاتمة
التحولات الأخيرة في المواقف الأوروبية تجاه إسرائيل تمثل فرصةتاريخية يجب عدم إهدارها. لكنها في الوقت نفسه، ليست تحولاتكاملة أو مضمونة، بل خاضعة لحسابات داخلية وضغوط خارجيةمعقدة.
إن وقف الحرب على غزة هو مطلب عاجل، لكن المعركة الحقيقية تبدأبعد الحرب: معركة تثبيت الحقوق الفلسطينية، وإنهاء الاحتلال، وإقامة دولة فلسطينية مستقلة على حدود الرابع من حزيران 1967.
ويبقى السؤال مفتوحًا: هل تتحرر أوروبا من إرث تواطئها الطويلمع الاحتلال، أم تكتفي بإدارة الغضب الشعبي مؤقتًا دون تغييرجوهري في سياساتها
تقف أوروبا أمام مفترق طرق حاسم؛ طريق التحرر من إرث التواطؤوالصمت، وتترجم شعاراتها عن حقوق الإنسان والعدالة إلى مواقفملموسة، وإما الاكتفاء بامتصاص غضب الشارع، لتعيد إنتاج صيغقديمة من النفاق السياسي وتبني مشروع حل الدولتين.
وعلى الجانب الفلسطيني، الفرصة سانحة لكنها ليست أبدية: فإماأن يُبنى على هذا التحول الأوروبي مسار سياسي جاد يقود نحوالتحرر، أو يضيع هذا الزخم في انتظار مبادرات الآخرين دون خطةأو تحرك فاعل.