البوابات الحديدية: خنق الفلسطينيين وتفكيك حلم الدولة

صنارة نيوز - 26/09/2025 - 2:33 pm

تفيد توثيقات منظمة البيدر للدفاع عن حقوق البدو والقرى المستهدفةبأن الضفة الغربية والقدس تعيش منذ سنوات في واقع خانق، حيثتتكاثف الحواجز والبوابات العسكرية الإسرائيلية على مداخل القرىوالمدن، فتتحول الحركة اليومية للفلسطينيين إلى رحلة شاقة مليئةبالانتظار والقيود. ومع مرور الوقت، لم تعد هذه الحواجز والبواباتمجرد إجراءات مؤقتة مرتبطة بأحداث أمنية، بل باتت معالم ثابتةترسم ملامح الحياة الفلسطينية، وتحوّل الجغرافيا إلى جزر معزولةتقطع أوصالها الأسلاك والجدران والبوابات الحديدية.

وتكشف الأرقام الرسمية حتى منتصف عام 2025 عن حجم غيرمسبوق لهذه الظاهرة، حيث تجاوز عدد الحواجز والبوابات الألف، لتصبح الضفة الغربية منطقة ممزقة الأوصال ومحاصرة على نحومتزايد. هذا الواقع لا يعكس مجرد سياسة أمنية، بل يندرج ضمنمشروع أوسع يقوم على السيطرة الجغرافية والديموغرافية، ويفتحالباب أمام توسع استيطاني ممنهج، في انتهاك صارخ لحقوقالفلسطينيين وللقانون الدولي.

 

خريطة الحواجز والبوابات بالأرقام

تفيد المنظمة بأن الأرقام الرسمية الموثقة حتى منتصف العام 2025، ترصد مشهد خانق في الضفة الغربية والقدس؛ حيث بلغ عددالحواجز والبوابات العسكرية التي أقامها الجيش الإسرائيلي 916 حاجزًا وبوابة منتشرة على مداخل القرى والمدن. وبلغة الأرقام فقدتصدرت محافظة رام الله والبيرة القائمة بمجموع 177 حاجزًاوبوابة، تليها نابلس 148 ثم بيت لحم 123، والخليل 96. أما طولكرموقلقيلية فقد سجلت كل منهما 76 حاجزًا وبوابة، في حين تم رصد61 في سلفيت، وفي القدس 57، وجنين 44، وطوباس 42، وأخيرًاأريحا 16 حاجزًا وبوابة.

غير أن هذه الأرقام لم تبق ثابتة، إذ واصلت قوات الاحتلال سياسةفرض القيود على حركة الفلسطينيين عبر إضافة المزيد من الحواجزوالبوابات الحديدية. ففي الأشهر الثلاثة الأخيرة فقط، ارتفع العددالإجمالي إلى ما يزيد على ألف حاجز وبوابة، بعدما نُصبتعشرات البوابات الجديدة عند مداخل القرى والبلدات. 

وقد شهد منتصف سبتمبر ٢٠٢٥ تصعيدًا لافتًا؛ ففي صباح يوم ١٧ أيلول نصبت بوابات حديدية على مدخل مدينة روابي، وفي ١٦ أيلول أُقيمت بوابات على مداخل بلدات رنتيس واللبن الغربي فيمحافظة رام الله. بينما نصبت بوابات جديدة على مداخل بلدةالعيزرية وبلدة مخماس شرق وشمال شرق القدس في ١٥ أيلول، وبلدة الرام في ١٤ أيلول، ضمن حملة واسعة شملت القرى المحيطةبالقدس، ضمن سياسة تستهدف التضييق على حياة الفلسطينييناليومية وفرض قيود مشددة على تنقلهم، وهو ما يؤدي إلى صعوبةمتزايدة في الوصول إلى المدارس والجامعات والمستشفيات، فيانتهاك صارخ لحقهم في حرية الحركة. وتكرر المشهد نفسه جنوبالخليل، حيث أقيمت في مطلع سبتمبر بوابة حديدية على أحدالممرات الحيوية بين قرى مسافر يطا، الأمر الذي عمّق من معاناةالمواطنين وقيّد حركتهم اليومية.

هذا التوسع في نصب البوابات يعني أن الفلسطينيين يواجهونحاجزًا أو بوابة كل 6.3 كيلومتر مربع من مساحة الضفة الغربيةالبالغة 5860 كيلومترًا مربعًا، في دلالة واضحة على حجم القيودالمفروضة على حياتهم.

هذه الإجراءات لا تبدو عشوائية، بل جزء من سياسة ممنهجةتستهدف عزل القرى الفلسطينية عن محيطها، وفصل التجمعات عنبعضها البعض، وحرمان الأهالي من التنقل بحرية والوصول إلىأراضيهم ومصادر رزقهم. ومع كل بوابة جديدة، تتعمق عزلةالفلسطينيين، وتترسخ صورة الضفة الغربية كرقعة جغرافيةمحاصرة يعيش أهلها بين جدران وأسوار وحديد، تحاكي كانتوناتصغيرة محاصرة، يعيش سكانها في حالة عزل دائم، لا يتحركون إلابإذن عسكري أو عبر طرق التفافية طويلة، ليصبح الحصار واقعًايوميًا يرسم بالأرقام والبوابات الحديدية.

رغم أن الرواية الإسرائيلية الرسمية تبرر نصب الحواجز والبواباتالحديدية بذريعة الأسباب الأمنية ومنع الهجمات ضد الجيشوالمستوطنين، إلا أن الواقع يكشف عن أهداف أعمق بكثير. هذهالإجراءات تجاوزت حدود الأمن لتتحول إلى سياسة ممنهجة تقومعلى العزل الجغرافي، بحيث تتقطع أوصال الضفة الغربية إلى جزرمتناثرة، فيما تُخضع حركة الفلسطينيين لمراقبة وسيطرة مشددة.

 

البوابات واقع الضم والخنق

في الواقع، ترتبط هذه السياسة بمشروع سياسي تقوده شخصياتبارزة في الحكومة الإسرائيلية مثل بتسلئيل سموتريتش، يقوم علىتوسيع الاستيطان وضم مناطق C، التي تشكل أكثر من 60% منمساحة الضفة الغربية. ولتحقيق ذلك، يجري إحاطة القرىالفلسطينية بحواجز وبوابات تجعل الوصول إليها أو الخروج منهامرهونًا بقرارات الجيش، في خطوة تستهدف تحويلها إلى كانتوناتمعزولة فاقدة للتواصل الجغرافي والاقتصادي. هذه المعادلة تصبفي استراتيجية أوسع تسعى إلى إضعاف البنية السكانيةوالجغرافية الفلسطينية تمهيدًا لتكريس الضم الفعلي.

ويرى المحامي حسن مليحات المشرف العام على المنظمة بأنالاستهداف لا يقتصر على المدن والقرى فقط؛ فالمجتمعات البدويةفي مناطق الأغوار ومحيط القدس والخليل تعد على نحو خاصعائقًا أمام التوسع الاستيطاني. لذلك، يجري التضييق عليها عبرحرمانها من المراعي ومصادر المياه، وتقليص حركتها بين القرى، وفرض ظروف معيشية خانقة تدفع نحو الترحيل الصامت. هذهالسياسات تندرج ضمن مساعٍ أوسع لإفراغ مناطق C من سكانهاالأصليين، كما يتضح في محاولات إخلاء تجمعات بدوية مثل خانالأحمر وعين سامية.

بهذا المعنى، لا يمكن النظر إلى الحواجز والبوابات كإجراءات ظرفيةمرتبطة بأحداث أمنية فقط، بل باعتبارها أداة تنفيذية لمشروع الضموالتهجير. فهي ليست مجرد استجابة ظرفية تدّعي إسرائيل أنهاتهدف إلى حفظ الأمن، بل تكشف القراءة الأعمق عن كونها جزءًامن بنية استراتيجية متكاملة. هذه السياسة تعمل على ثلاثة محاورمتوازية:

المحور الأول أمني، يهدف إلى منع انفجار الأوضاع في الضفةالغربية بالتوازي مع استمرار الحرب على غزة، عبر تشديد الرقابةعلى حركة الفلسطينيين وإخضاع تنقلهم لسيطرة كاملة من قبلالجيش. أما المحور الثاني فهو سياسي، يسعى إلى تفكيكالجغرافيا الفلسطينية وتحويل القرى والمدن إلى جزر معزولة، بمايمنع أي إمكانية لقيام كيان فلسطيني متماسك. وفي المحور الثالثيبرز البعد الاستيطاني، حيث تُستخدم هذه الحواجز كوسيلة لتهيئةالأرضية لضم مناطق C، عبر حماية المستوطنات وتوسيعها وفرضوقائع ديموغرافية وقانونية جديدة على الأرض.

بعبارة أخرى، الحواجز لم تعد مجرد بوابات حديدية تعرقل الحركةاليومية، بل أضحت أداة تنفيذية لخطة الضم والتهجير، ووسيلةمزدوجة تجمع بين القمع الأمني المباشر وخدمة المشروعالاستيطاني طويل الأمد.

 

البوابات والقانون الدولي

ليست البوابات والحواجز العسكرية مجرد أدوات عسكرية؛ فهيتمثل انتهاكًا واضحًا لحقوق الإنسان الأساسية، إذ تهدف إلىتقييد الحريات اليومية للسكان الفلسطينيين.

أول هذه الحقوق هو الحق في حرية الحركة والتنقل، المكفول بموجبالمادة 13 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والمادة 12 من العهدالدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية. الحواجز تحول التنقلبين المدن والقرى إلى عملية مشروطة بإذن الاحتلال، مما يجعلالحركة اليومية مقيّدة وخاضعة للرقابة المستمرة.

أما الحق في الصحة، فيتعرض للخطر بشكل مباشر، إذ تعيق هذهالبوابات وصول المرضى وفرق الإسعاف إلى المستشفيات في الوقتالمناسب، ما يشكل خرقًا للمادة 12 من العهد الدولي الخاصبالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وبالمثل، الحق في العملوالتعليم يتأثر، إذ تمنع القيود المئات من الوصول إلى أماكن عملهمأو مدارسهم وجامعاتهم، مما يقوض أسس حياة اقتصاديةواجتماعية مستقرة.

إضافة إلى ذلك، تشكل هذه السياسة عقابًا جماعيًا علىالفلسطينيين، بما يتعارض مع المادة 33 من اتفاقية جنيف الرابعةالتي تحظر أي عقوبات جماعية على المدنيين. وفي سياق أوسع، تعتبر الحواجز والبوابات جزءًا من إجراءات الاحتلال التي تهدفإلى إحكام السيطرة على السكان المحميين، وهو ما يعد خرقًاواضحًا للمادة 27 من اتفاقية جنيف الرابعة التي تضمن احترامحقوق المدنيين الأساسية.

بمعنى آخر، البوابات ليست مجرد قيود مؤقتة على الحركة، بل أداةيومية لتقييد الحقوق الأساسية وفرض واقع انتهاكي على الأرض، يحاصر حياة الفلسطينيين في كافة جوانبها.

خاتمة

تشير المعطيات المتوفرة لدى منظمة البيدر للدفاع عن حقوق البدووالقرى المستهدفة إلى أن الحواجز والبوابات الحديدية لم تعد مجردعوائق متناثرة على مداخل القرى والمدن، بل غدت مكونًا مركزيًافي سياسة الاحتلال الإسرائيلي، تجمع بين السيطرة الأمنيةالمباشرة، وتفكيك الجغرافيا الفلسطينية، وتهيئة الأرضية لتوسيعالمشروع الاستيطاني. فهي من جهة أداة رقابة وقمع تقيد حريةالحركة وتفرض عزلة متزايدة على التجمعات الفلسطينية، ومن جهةأخرى وسيلة استراتيجية لإعادة رسم خريطة الضفة الغربية بمايخدم مخططات الضم والتهجير وقتل حلم الدولة الفلسطينية. وفيالوقت نفسه، تمثل هذه السياسات خرقًا صارخًا للقانون الدوليوحقوق الإنسان، إذ تحول الحياة اليومية للفلسطينيين إلى دائرة منالعقاب الجماعي وانتهاك الحقوق الأساسية في الصحة والتعليموالعمل والتنقل.

وتؤكد المنظمة على أن ما يتجسد على الأرض اليوم هو مشهد لواقعمحاصر تختزل فيه الضفة الغربية إلى كانتونات معزولة، يعيشسكانها بين الجدران والبوابات العسكرية، في محاولة لتفريغ الأرضمن مقومات الحياة الطبيعية، وفرض واقع استيطاني جديد يكرسالضم الفعلي ويمهد لتغيير ديموغرافي وجغرافي عميق. بهذاالمعنى، فإن الحواجز ليست مجرد هياكل حديدية، بل معالم واضحةعلى مشروع استعماري يمارسه الاحتلال الاسرائيلي على مرأىالمجتمع الدولي، وهو ما يستدعي موقفًا أكثر صرامة لحمايةالحقوق الفلسطينية الأساسية ووقف مسار التهجير وحل الدولتين.