بعد تضخّم غير مبرر في عددها.. ضبط “الهيئات المستقلة” خطوة لوقف النزيف المالي ومواكبة الإصلاح
صنارة نيوز - 12/11/2025 - 8:52 am
ينما ما يزال ملف "الهيئات المستقلة" يحمّل الموازنة العامة عبئا ماليا يصفه خبراء بـ"الثقيل"، تنادي أصوات بضرورة إيجاد حلول جذرية لحالة "الاستنزاف المالي" التي تتسبب بها بعض الهيئات المستقلة.
غير أن ثمة من يرى أن الهيئات المستقلة لا تشكل ذلك العبء الذي يصوره البعض، لا سيما وأن بعضها يحقق إيرادات تدعم خزينة الدولة.
وبين هذين الرأيين المتضاربين، تؤكد الأرقام الرسمية أن العجز المالي المقدر في موازنة العام الحالي يشكل حوالي 18 % من إجمالي الإنفاق، بينما يقفز العجز في موازنة الهيئات الحكومية المستقلة إلى إجمالي النفقات إلى ما نسبته 47 %.
ويبلغ إجمالي النفقات المقدرة في موازنة العام الحالي 12.49 مليار دينار، فيما يبلغ حجم العجز المقدر 2.58 مليار بنسبة 18 % من إجمالي النفقات، في المقابل، يقدر حجم النفقات في الوحدات الحكومية المستقلة 1.799 مليار دينار مقابل عجز مقدر بـ850 مليون دينار، بما نسبته 47 % من إجمالي النفقات.
وفي الوقت نفسه، يبين خبراء أن الحل لا يكمن في إلغاء مطلق للهيئات المستقلة، ولا في إبقاء الحال كما هو، بل يتمثل في إجراء دراسات معمقة وموضوعية لكل هيئة، لتحديد إمكانية دمجها ضمن وزارات أو إبقائها في حال كانت تؤدي وظائف ضرورية لا يمكن الاستغناء عنها.
وثمة خبراء يرون أن استمرار بعض هذه الهيئات يمثل نزيفا ماليا يمكن تقليصه بما يحقق وفورات يصل إلى نحو 60 مليون دينار سنويا، مع الإشارة إلى أن العديد من هذه الوحدات يقدم خدمات أساسية أو ينظم القطاعات الحيوية ويحقق إيرادات للخزينة، ما يجعل من التعميم بأنها مصدر دائم للعجز تبسيطا غير دقيق للواقع.
وفي هذا السياق، تصبح المراجعة المؤسسية الشاملة، المبنية على تقييم الأداء والكلفة والأثر الاقتصادي، مفتاحا لتحقيق إنفاق عام أكثر كفاءة، واستدامة مالية أفضل، وتحسين جودة الخدمات العامة، بما يخدم الاقتصاد الوطني والمجتمع على حد سواء.
واقع الهيئات والوحدات المستقلة
يشار إلى أن عدد الوحدات الحكومية المستقلة في الأردن يبلغ حاليا 22 هيئة ووحدة، بعد أن تقلصت في الأعوام الأخيرة إلى 26 وحدة حكومية، انخفاضا من 57 هيئة مستقلة في العام 2018، وذلك في إطار الخطط الحكومية لترشيق الجهاز الحكومي وتحسين فعالية الإنفاق وتوفير المال العام من أجل التنمية والتشغيل وتجنب الترهل الإداري.
وقدرت الموازنة العامة للعام الحالي مجموع نفقات الوحدات الحكومية للسنة المالية بمبلغ 1.799 مليار دينار، منها 1.188 مليار كنفقات جارية ونحو 611 مليونا كنفقات رأسمالية، بينما من المتوقع أن تبلغ إيراداتها في نهاية السنة المالية حوالي 1.011 مليار دينار.
وفي ظل ذلك، يقدر مجموع العجز قبل التمويل للسنة المالية 2025 للوحدات الحكومية التي تظهر موازناتها عجزا بمبلغ 850.71 مليون دينار، فيما قدر صافي العجز قبل التمويل للسنة المالية لجميع هذه الوحدات بـ788.15 مليون دينار.
منصور: وجود العديد من الهيئات المستقلة أصبح غير مبرر
ويرى وزير الدولة لشؤون الاقتصاد يوسف منصور أن الأسباب التي دعت إلى إنشاء العديد من الهيئات المستقلة في الأردن باتت اليوم منتهية، موضحا أن الغالبية العظمى من هذه الوحدات كانت تهدف أساسا إلى تنظيم المنافسة وحمايتها في مختلف القطاعات، وذلك في وقت لم يكن هناك قانون منافسة معمول به.
ولفت منصور إلى أن الحكومات المتعاقبة منذ العام 2005 ناقشت ملف الوحدات الحكومية المستقلة بشكل مستمر، لكنها لم تتوصل إلى حلول جذرية، ما أدى إلى أن يظل عدد من هذه الهيئات قائما رغم تقلصه على مدار العقدين الماضيين.
وأشار منصور إلى أن هذه الهيئات ما تزال تشكل عبئا ماليا على الخزينة العامة، ونزيفا مستمرا للموارد، وهو ما يمثل مشكلة دائمة داخل الاقتصاد الوطني تستدعي الانتباه والمعالجة.
وأوضح أن معالجة هذه القضية تتطلب تحركا في اتجاهين؛ الأول دراسة كل وحدة مستقلة من ناحية أسباب إنشائها، وأدائها، وكلفتها، والحلول الأنسب لها.
أما الاتجاه الثاني، فيتمثل بتحويل مديرية المنافسة التابعة لوزارة الصناعة والتجارة إلى هيئة منافسة، توكل إليها إعادة النظر في هذه الهيئات وإلحاقها بالوزارات المناسبة لاختصاصها، خاصة أن العديد من الوحدات القائمة اليوم لم تعد مرتبطة بالمنافسة التي كانت هدف إنشائها.
وتوقع منصور أن ينعكس تقليص عدد الهيئات والوحدات الحكومية بوفورات مالية سنوية على الخزينة العامة تصل إلى نحو 60 مليون دينار.
مدادحة: الهيئات المستقلة ليست كلها عبئا على الموازنة
في المقابل، اعتبر وزير الدولة السابق لتطوير القطاع العام ماهر مدادحة أن الهيئات المستقلة في الأردن كـ"قميص عثمان"، إذ ينظر إليها الكثيرون على أنها مصدر للمشكلات، إلا أن الواقع مختلف.
وأكد مدادحة أن هناك تعميما خاطئا يروج له بعض المراقبين ووسائل الإعلام، مفاده بأن هذه الهيئات والوحدات تضيف باستمرار عجزا على الموازنة العامة، مشيرا إلى أن معظمها يحقق إيرادات لصالح الخزينة من خلال الرسوم والخدمات التي يقدمها.
وأشار إلى أن الاستثناء الأكبر يتمثل في سلطة المياه، التي تواجه مشكلة مديونية متراكمة، وهي في الأساس هيئة غير رقابية. وأوضح مدادحة أن الحكومة تقدم دعما مستمرا للسلطة لضمان عدم رفع أسعار المياه على المواطنين، ما يجعلها تبدو وكأنها مصدر نفقات فقط، من دون تحقيق إيرادات.
وتطرق مدادحة إلى الفارق بين الهيئات الرقابية وغير الرقابية، موضحا أن الأولى تعمل وفق قانون محدد وهدفها تنظيم عمل القطاع المعني والحفاظ على توازن المصالح بين الحكومة والمستفيدين والمواطنين، بينما الثانية تشمل شركات مملوكة للدولة، مثل سلطة المياه، وتهدف غالبا إلى تقديم خدمات أساسية أكثر من كونها جهات رقابية.
عوض: معالجة الملف تتطلب دراسات معمقة وموضوعية
من جانبه، قال رئيس مركز الفينيق للدرسات الاقتصادية والاجتماعية أحمد عوض "إن الجدل الدائر والمستمر حول جدوى بقاء المؤسسات المستقلة أو إلغائها لا يمكن حسمه إلا عبر دراسات معمقة وموضوعية، يقوم بها خبراء مستقلون يقيمون مهام كل مؤسسة، وإمكانية دمجها ضمن وزارات أو هيئات أخرى، أو إبقائها إذا كانت تؤدي أدوارا ضرورية لا يمكن الاستغناء عنها".
وأضاف عوض "المشكلة الأساسية ليست في وجود هذه الهيئات من عدمه، بل في مدى كفاءة الإنفاق العام بشكل عام، وقدرة مؤسسات الدولة على توجيه الموارد نحو أولويات حقيقية تسهم في النمو والاستقرار".
ويرى عوض أن استمرار العجز من دون إصلاحات جدية يعمق الأعباء على المالية العامة، ويزيد الضغوط على الحكومة في إدارة الدين وتوفير الخدمات العامة بجودة وكفاءة عالية. وفي الوقت ذاته، فإن الإصلاح المؤسسي القائم على المراجعة والتقييم، لا على الانطباعات أو الضغوط اللحظية، هو الطريق نحو إنفاق عام أكثر كفاءة، وإدارة مالية أكثر استدامة، بما ينعكس إيجابا على الاقتصاد الوطني والمجتمع.
وأكد عوض أنه في ظل التحولات والتحديات الاقتصادية التي نواجهها في الأردن في الوقت الراهن، يبرز موضوع العجز المستمر في موازنات الوحدات الحكومية والمستقلة كإحدى القضايا الجوهرية التي تحتاج إلى مراجعة جادة.
وقال "إن هذا العجز لا يمكن النظر إليه بمعزل عن العجز المزمن في الموازنة العامة للدولة، والذي أدى إلى الارتفاع المستمر في حجم الدين العام، سواء الداخلي أو الخارجي، حتى وصل إلى مستويات مقلقة"
الغد



